الحمد لله المُتعَالي عن الأنداد، المقَدَّس عن النَّقائص والأضداد، المُتنزِّهِ عن الصاحِبةِ والأوْلاد، رافع السَّبع الشِّداد، عاليةً بغير عِماد، وواضِع الأرضِ للمهاد، مثَبتةً بالراسياتِ الأطْواد.
المطَّلِع على سِرِّ القُلُوب ومكنونِ الفُؤاد، مقدِّرِ ما كان وما يكونُ من الضَّلال والرَشاد، في بحار لُطفِه تجري مراكب العباد، وفي ميدان حبِّه تجول خيلُ الزُّهَّاد، وعنده مبتغى الطالبين ومنتهى القصاد.
وبِعينِه ما يتحمَّل المُتَحَمِّلون من أجله في الاجتهاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
رمضـانُ ودَّع وهـو في الآمـاق
يا ليته قـد دام دون فـراقِ
ما كـان أقصَـرَه عـلى أُلاَّفِـه
وأحبَّـه في طـاعةِ الخـلاق
زرع النفـوسَ هـدايةً ومـحبـة
فأتى الثمارَ أطايبَ الأخـلاق
«اقرأ» به نزلتْ، ففـاض سناؤُهـا
عطرًا على الهضبات والآفـاق
ولِليـلةِ القـدْر العظيـمةِ فضلُـها
عن ألفِ شهر بالهدى الدفَّـاق
فيها المـلائـكُ والأمـينُ تنـزَّلوا
حتى مطـالعِ فجـرِها الألاق
في العــامِ يـأتي مـرةً. لكنـّه
فاق الشهـورَ به على الإطلاق
شهرُ العبـادةِ والتـلاوةِ والتُّقَـى
شهرُ الزكـاةِ، وطيبِ الإنفاق
أيها الإخوة:
هاهو شهرنا الكريم وضيفنا العزيز قد آذن بالرحيل، بعد أيام معدودة سيرحل رمضانُ ويذهب إلى ربه ليكون حجة وشاهدًا لبعضنا، وحجة وشاهدًا على بعضنا، نعم حجة وشاهدًا لمن صاموا فأحسنوا الصيام.
ولمن قاموا فأحسنوا القيام، ولمن بذلوا فأحسنوا العطاء، ولمن عرفوا قدر رمضان فاستغلوا الأوقات، وحجة وشاهدًا على أولئك المفرطين، الذين صامت أجسامهم ولم تصم أرواحهم، أولئك الذين لم يكن حظهم من الصيام إلا الجوع والعطش، أولئك الذين زهدوا في الأجر فلم يكترثوا بأبواب الخير المشرعة في رمضان.
غلت أيديهم عن الإنفاق فبخلوا، وأغراهم الشيطان -وهو مسلسل- فسهروا على المحرمات، سماعًا ومشاهدة، فاستحقوا دعاء جبريل عليهم بالرغام والإبعاد. (بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له)1.
فيا من وفقكم الله للاستفادة من رمضان بالاستقامة على أمره ونهيه، إن هذه نعمةٌ عظيمة، والنعم تدوم بالشكر، قال الله سبحانه: لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ2، والشكر الحقيقي هو الشكر العملي، فأدوا شكر هذه النعمة بعد رمضان، بالمحافظة على استقامتكم، أثبتوا لربكم ثم لأنفسكم أنكم صادقون في هذه الاستقامة، وأنكم إنما تعبدون الله قناعة لا عادة، وأنكم تعبدون رب رمضان، لا رمضان.
الإخوة المؤمنون-رعاكم الله-: لقد تعودنا الصيام في رمضان فهل يستمر معنا هذا الصيام بعد خروج رمضان وانقضائه، أم ينقطع بانقطاع رمضان.
إن رب رمضان هو رب شوال ورب شعبان وغيرهما من الشهور، وكما شرع الله تعالى لنا صيام شهر رمضان فرضًا فقد شرع لنا صيام بعض الأيام نفلًا لتقربنا من الله تعالى، وتسمى بصيام التطوع.
ومن صيام التطوع:
أولًا: صيام الست من شوال: وقد ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى صيام الست من شوال كما جاء في الحديث الشريف: (من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر)3.
ففي هذا الحديث الحث على صيام ست من شهر شوال، وأن من أتبع رمضان بها كتب له أجر من صام الدهر إذا فعل ذلك كل عام. وما دام أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد بين عظيم أجر صيامها فما بال الكثير من المسلمين يتخلى عن صيامها!.
قال ابن رجب في لطائف المعارف4: "وإنما كان صيام رمضان وإتباعه بست من شوال يعدل صيام الدهر؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، وقد جاء ذلك مفسرًا من حديث ثوبان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "(صيام رمضان بعشرة أشهر وصيام ستة أيام بشهرين فذلك صيام سنة)، يعني رمضان وستة أيام من شوال بعده".5
أخي المسلم:صيام هذه الست بعد رمضان دليل على شكر الصائم لربه -تعالى- على توفيقه لصيام رمضان، وزيادة في الخير، كما أن صيامها دليل على حب الطاعات، ورغبة في المواصلة في طريق الصالحات.
قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: "فأما مقابلة نعمة التوفيق لصيام شهر رمضان بارتكاب المعاصي بعده، فهو من فعل من بدل نعمة الله كفرًا".6
ثانيًا: صيام ثلاثة أيام من كل شهر:
ومن صيام التطوع صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة رضي الله عنه بصيام ثلاثة أيام من كل شهر كما قال: "أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر،...".
وأمر أن تكون هذه الأيام الثلاثة أيام البيض وهي: اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، فمن أمكنه أن يجعل الثلاثة في أيام البيض فهو أفضل وإلا صام في غيرها، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، يعدل صيام سنة؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، وصيام الثلاث من كل شهر يعدل صيام الشهر كله.
ثالثًا: صيام يوم عرفة لغير الحاج:
إن فضل يوم عرفة لا يخفى على مسلم؛ ولأجل ذلك رغب النبي صلى الله عليه وسلم في صيامه، فقد ورد عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عرفة فقال: (يكفر السنة الماضية والسنة القابلة)7.
وهذا إنما يستحب لغير الحاج، أما الحاج فلا يسن له صيام يوم عرفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك صومه، وروي عنه أنه نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة.
وليوم عرفة فضائل منها أنه يوم أكمل الله فيه دينه، وهو اليوم الذي أخذ الله فيه الميثاق على ذرية آدم، وهو يوم أقسم الله به في كتابه الكريم، وهو يوم عيد لأهل الموقف بعرفة، وهو يوم مغفرة الذنوب والعتق من النار والمباهاة من الله تعالى لملائكته بأهل الموقف.
رابعًا: صيام المحرم، وتأكيد صوم عاشوراء ويوما قبلها، أو يومًا بعدها:
فعن أبي هريرة قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصيام أفضل بعد رمضان؟ قال: (صيام شهر الله المحرم)8 وعن معاوية ابن أبى سفيان -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء صام ومن شاء فليفطر)9 متفق عليه.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يوم عاشوراء يومًا تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه، فلما قدم المدينة صام، وأمر الناس بصيامه، فلما فُرض رمضان قال: (من شاء صامه ومن شاء تركه)، متفق عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجدهم يصومون يوما -يعني عاشوراء- فقالوا: هذا يوم عظيم وهو يوم نجى الله فيه موسى، وأغرق آل فرعون فصام موسى شكرًا لله فقال: (أنا أولى بموسى منهم). فصامه وأمر بصيامه.10
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال: (إذا كان العام المقبل -إن شاء الله- صمنا اليوم التاسع) قال: فلم يأت العام المقبل، حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.11
وفى لفظ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع) يعنى مع يوم عاشوراء12، وهو على ثلاث مراتب: الأولى: صوم ثلاثة أيام: التاسع، والعاشر، والحادي عشر، والثانية: صوم التاسع، والعاشر، والثالثة، صوم العاشر وحده.
خامسًا: صيام أكثر شعبان:
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم أكثر شعبان: كما قالت عائشة –رضي الله عنها-: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط، إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه في شعبان.13
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت: يا رسول الله، لم أراك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: (ذلك شهر يغفل الناس عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم)14وتخصيص صوم النصف منه ظنًا أن له فضيلة على غيرة، مما لم يأت به دليل صحيح.
سادسًا: صوم يومي الاثنين، والخميس:
فعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يصوم الاثنين والخميس، قال: فقيل له، قال: (إن الأعمال تعرض كل اثنين وخميس أو كل يوم اثنين وخميس فيغفر الله لكل مسلم أو لكل مؤمن إلا المتهاجرين فيقول: أخراهما)15 وفي صحيح مسلم: أنه سئل عن صوم يوم الاثنين؟ فقال: (ذلك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت، أو أنزل علي فيه)16 أي نزل الوحي علي فيه.
سابعًا: صيام يوم وفطر يوم:
عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- قال: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار) قلت: بلى: قال: (فلا تفعل، قم ونم، وصم وأفطر، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإنك عسى أن يطول بك عمر وإن من حسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام فإن بكل حسنة عشر أمثالها فذلك الدهر كله).
قال: فشددت فشدد علي، فقلت: فإني أطيق غير ذلك قال: (فصم من كل جمعة ثلاثة أيام)، قال: فشددت فشدد علي، قلت: أطيق غير ذلك، قال: (فصم صوم نبي الله داود)، قلت: وما صوم نبي الله داود؟ قال: (نصف الدهر).17
هذه بعض النوافل بالنسبة لجانب الصيام، والتي يستحب للمؤمن متابعتها بعد صيام رمضان.
اسأل الله تعالى أن يتقبل صيامنا وقيامنا وسائر أعمالنا إنه على كل شيء قدير، والحمد لله أولًا وآخرًا.
1 رواه البخاري في الأدب المفرد(644).
2 (7) سورة إبراهيم.
3 رواه مسلم في صحيحه برقم (1164).
4 لطائف المعارف ص(244).
5 وقد أخرجه ابن ماجه أيضًا وقال الأعظمي: (إسناده صحيح) صحيح ابن ماجه (2115).
6 لطائف المعارف ص(244).
7 رواه مسلم (1162).
8 رواه مسلم (1163).
9 رواه البخاري (1846).
10 رواه البخاري (3216) مسلم (1130).
11 رواه مسلم (1134).
12 المرجع السابق.
13 رواه مسلم (1156).
14 رواه النسائي (2357) وصححه ابن خزيمة.
15 رواه أحمد في السند (8343) قال الأرنؤوط: صحيح.
16 رواه مسلم (1162).
17 رواه البخاري (5783).
المصدر: موقع إمام المسجد